شهدت مدينة عانة في محافظة الأنبار غربي العراق ظهور مواقع أثرية بعد انخفاض مناسيب مياه نهر الفرات، ومن بينها سجون ومقابر مملكة "تلبس" التي تعود إلى حقبة ما قبل الميلاد.
ويزخر العراق بآلاف المواقع والمدن التاريخية، فضلا عن تلك التي ما تزال متوارية تحت مياه البلاد وترابها بانتظار فرق التنقيب المتخصصة.
وعن ذلك، يقول محمد جاسم مسؤول فريق إعادة بناء مئذنة عانة الأثرية إن ظهور هذه المواقع في هذا الوقت هو نتيجة لانحسار مياه بحيرة سدّ حديثة، بسبب قلة الإطلاقات المائية في نهر الفرات من قبل تركيا.
ويبين للجزيرة نت أن انحسار المياه وتراجعها إلى حوض الفرات كما كان قبل إنشاء سدّ حديثة، أدى لظهور عدد من المواقع الأثرية التي يتجاوز عددها 80 موقعا.
ويعرب عن اعتقاده بأن ما يسمى "سجون تلبس" هي في الحقيقة عبارة عن مجموعة قبور للدفن تعود للفترة الآشورية الحديثة، حيث مرّ الآشوريون من خلال تلك المنطقة أثناء حملاتهم العسكرية التي سيطروا بها على بلاد الشام وصولا إلى مصر.
ويؤكد جاسم وجود اهتمام من قبل الهيئة العامة للآثار والتراث بالمواقع الأثرية، خصوصا المواقع الشاخصة، حيث باشرت العام الماضي عملية إعادة بناء مئذنة عانة الأثرية التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات من هذا الموقع.
وينبّه إلى أن ظهور هذا الموقع هو مؤقت نتيجة انحسار مياه بحيرة سد حديثة، وبالتالي لا يمكن الجزم بأن المياه سوف تستمر بالانحسار حتى إن كانت هذه المواقع غير مكتملة التنقيب، إذ إن معظم هذه المواقع لم تكتمل فيها أعمال التنقيب بشكل كامل بسبب قلة الفترة الزمنية التي بوشر فيها التنقيب في ذلك الوقت، والتي بدأت تقريبا منذ عام 1978 واستمرت حتى عام 1988، حيث غطت مياه بحيرة سد حديثة تلك المنطقة كاملة.
ويشير جاسم إلى أن الموقع عبارة عن مجموعة من القبور محفورة في الحجر، وهناك "مغاور مجْول" المشابهة لموقع تلبس، وقد اشتغلت فيه البعثة الإيطالية، وسمي هذا النوع من القبور (كتاكومب)، وهي عبارة عن غرف صغيرة الحجم محفورة بالصخور، حيث قام العراقيون القدماء وسكان تلك المنطقة بحفر هذه القبور، وهي ليست عادية وإنما كانت تعود لأشخاص مهمين في تلك الفترة.
ويلفت إلى أن من بين تلك المواقع التي شملها الاهتمام الأخير من قبل الهيئة العامة للآثار والتراث، موقع قلعة هيت ومئذنة الفاروق عمر الأثرية في هيت، وبرج المعمورة وقصر علي الفارس في آلوس، والعديد من المواقع الغنية بالآثار على امتداد نهر الفرات.
وتقع مدينة عانة القديمة على بعد 350 كلم غرب بغداد ضمن مناطق أعالي الفرات، وهي من أقدم مدن العالم ويتجاوز عمرها 4 آلاف عام، كما تشير المصادر التاريخية، حيث ورد ذكرها في المخطوطات البابلية والآشورية، وذكرها مؤرخون مثل أميانوس مارسيليانوس والقديس إيسيدور وغيرهم.
ويقول أستاذ التاريخ الدكتور خالد حسن الجمعة إن سكان مدينة عانة أرسلوا الوفود إلى رئيس الجمهورية آنذاك أحمد حسن البكر، ومسؤولي الحكومة في بغداد للتريث بإنشاء السد حتى لا يؤثر على المدينة العريقة، لكن الحكومة أصرّت على بناء السد لأنها ترى أن إيجابياته أكثر من سلبياته، ولا يهمها غرق مدينة تحمل من الآثار الكثير.
ويلفت في حديثه للجزيرة نت إلى أن المدينة المغرقة كانت تضمّ الكثير من المباني والآثار التي تعود إلى قرون من الزمن، كما سكنها كثير من الأقوام السومرية والبابلية، وكذلك فيها آثار رومانية كانت شاخصة قبل الغرق.
ويذكر أستاذ التاريخ أن هذه المدينة تغنى بها الشعراء عبر التاريخ، ودونوا الكثير من الشعر حولها وحول أهلها والعادات والتقاليد التي يحملونها ويعتزون بها.
من جانبه، يقول الوثائقي عبد السلام الدزدار إن "تلبس" جزيرة في نهر الفرات على مسافة 65 كيلومترا من مدينة عانة الجديدة الحالية، ونحو 14 كيلومترا إلى الجنوب من المدينة المغرقة، وكانت هذه الجزيرة محصنة في القديم، ولعل اسمها الحالي محرف عن "تلبوتا"، وقد وردت في الكتابات المسمارية بشكل "تلمش" أو "تلبش" و"تلباش"، فقد ورد هذا الاسم في حملة الملك الآشوري "أكلوتي" من عام 884 إلى 889 قبل الميلاد.
ويضيف للجزيرة نت أن تلبس وعانة وغيرهما من مدن أعالي الفرات تقع في إقليم ذكرته المصادر البابلية والآشورية باسم "سوخي"، وهو اسم إحدى القبائل الآرامية التي حلت في أعالي وسط نهر الفرات في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد.
ويبين الدزدار أن موقع تلبس الأثري يعد من أقدم المواقع ضمن الحدود الجغرافية لقضاء عانة، وقد أعلن عن أثريته عام 1955، وهذه الشقوق الصخرية هي عبارة عن مدافن تقع على تل صخري في الجهة الشرقية لنهر الفرات، ويوجد في كل مجموعة 8 قبور مجموعة، منها قبر كبير يحتمل أن يكون لشخص ذي مكانة رفيعة.