منذ وصولي إلى مرحلة الإعدادية، وأنا أعيش تحت تأثير فكرة الثقافتين (العلمي والإنساني)، والتي كان أول من تطرق إليها العالم الفيزيائي والروائي سي. بي. سنو عبر محاضرته التي ألقاها في جامعة كامبريدج عام 1959. هذه المحاضرة شكلت انعطافة ثورية في تاريخ السياسات الثقافية، حتى أصبح مصطلح "الثقافتان" من أكثر المصطلحات رسوخًا وتأثيرًا على المستوى العالمي حتى يومنا هذا.
بالرغم من أنني لم أكن على دراية كاملة بالموضوع أو الكاتب، إلا أنني كنت دائمًا مفتونًا به، خصوصًا بعد مخالطتي للأكاديميين ومجالستهم. لقد اكتشفت أن هذه الفكرة ليست محصورة بفترة المراهقة، بل هي قضية متجذرة في نفوس بعض الضعفاء معرفيًا. ففي العديد من الأحيان، يظهر تمايز واستعلاء بين الطرفين، حيث يُعتبر أن الاختصاص العلمي هو الأهم من الاختصاص الإنساني، والعكس صحيح أيضًا.
قبل عدة أسابيع، وأثناء تصفحي على الفيسبوك، قرأت مقالًا عن كتاب بعنوان "الثقافتان والثورة العلمية" لذات الكاتب، الذي ترجمته وقدمته الكاتبة العراقية لطفية الدليمي، التي أدام الله ظلها. كان الكتاب صغيرًا، بحدود 110 صفحات، وكنت قد قضيت حوالي 5 ساعات متواصلة لإنهائه. وفي هذا الكتاب، قدم الكاتب رؤيته حول الفجوة الثقافية بين العلماء والإنسانيين، وسلط الضوء على ما اعتبره نقصًا في التواصل والتفاهم بين المثقفين في العلوم الطبيعية من جهة، والمثقفين في العلوم الإنسانية والأدب من جهة أخرى.
ومع ذلك، فإنني أرى أن هذه الفجوة ما هي إلا أوهام تطال الطرفين. فالعلم لا يكتمل إلا بارتباطه بالفكر الإنساني، ولا يتقدم إلا باجتماعه مع العلوم الأخرى. الفلسفة، حتى يومنا هذا، تعتبر أم العلوم، والمنطق هو خريطة العلوم، وكلاهما ينتميان إلى حقل العلوم الإنسانية.
أعتقد أن هذا التمايز بين الثقافتين هو في جوهره مجرد أمراض وعقد نفسية تجعل من يتبنى هذه الفكرة يوهم نفسه بأن اختصاصه أفضل من الآخر، وبالتالي هو الأهم. المشكلة تكمن في أن هذا الموضوع يحظى باهتمام كبير في الأوساط الأكاديمية، حيث تتفشى لغة الجهل والتعالي، ويصل الأمر إلى مراحل متقدمة ومهولة تثير الاشمئزاز. وعلى الرغم من أن الكاتب لم يقدم حلولًا لهذه المشكلة بقدر ما قام بتحليلها واقعياً في ستينيات القرن العشرين، فإننا لا زلنا نجد اليوم من يتغنى بهذه العقدة، دون أن يشعر، وهو في الواقع دليل على جهله وعدم معرفته.